5 يوم
الاكتئاب


في ظلال الاكتئاب، حيث ينسدل الليل دون شفقة، وتختلط الأيام بلا فواصل، هناك في المكان الذي لا يصل إليه الضوء، هناك حيث تبدأ الروح في الانسحاب من جسدها، يصبح الوجود مجرد عبورٍ بلا معنى. لا يختفي الألم، لكنه يتقن الصمت، يتواري خلف جدران من اللامبالاة، كأنك لست هنا، أو أن هذا الجسد مجرد قفصٍ لا روح فيه.

الاكتئاب ليس مجرد شعورٍ بالحزن أو ضيقٍ عابر، هو أكثر من ذلك بكثير. هو غيمة داكنة تملأ الأفق وتخنق السماء، تبتلع كل شيءٍ كان يشعّ، كل حلمٍ كان يرتفع، وكل أملٍ كان يلوح بعيدًا. هو أن تشعر بأنك في قلب محيطٍ عميق، تتخبط في الماء، تحاول أن تلتقط نفسًا واحدًا يبعدك عن الغرق، لكن الهواء يفر منك، والعمق يسحبك أكثر وأكثر، في دائرةٍ مغلقة، لا تجد فيها متنفسًا ولا مخرجًا.

في ذلك المكان، يتحول العقل إلى كائنٍ منفصل، لا يقدر على التواصل مع الجسد الذي يتنفس. يصبح التفكير ثقيلًا كأن كل فكرةٍ تمرّ عبر بحرٍ من الوحل. تصبح الذاكرة عبئًا لا يحتمل، ماضية تتراقص فيها صور الأوقات الضائعة، وأيام لم تكتمل فيها السعادة. وتغرق الحواس في سكونٍ غير طبيعي، لا صوت يلامس الأذن، ولا منظر يلمس العين، كأنك غريبٌ في عالمٍ لا يُمكنك أن تكون جزءًا منه.

كل شيء فيك يتباطأ، والزمان لا يتحرك. كأن الساعات جمدت، وكأنك مُحاصرٌ في لحظةٍ لا تتغير. تنظر إلى مرآةٍ لا تعكس وجهك بل كائنًا لا تعرفه، تتساءل في صمتٍ عميق: هل كنتُ يومًا هذا الشخص الذي ينبض بالحياة؟ أم أنني مجرد ذكرى لرجلٍ كان يأمل ويضحك ويعيش؟

والأسوأ من الألم الجسدي، هو الشعور بالفراغ الداخلي. أن تكون وسط العالم وتظلّ عالقًا في زاويةٍ مظلمة لا تجد فيها مخرجًا. لا تستطيع أن تروي حزنك للآخرين، لأن الكلمات تخذلها، والتعبير عن الألم يصبح مستحيلًا. كل ما تملكه هو الصمت، وأنت تعرف تمامًا أن هذا الصمت هو صراخٌ مكبوت، لا يسمعه أحد.

ثم يتبادر إلى ذهنك سؤالٌ مؤلم: هل ستظل هكذا؟ هل سيتحول هذا الصراع الداخلي إلى حالة دائمة؟ هل سيظل هذا السواد يغلف أيامك حتى يصبح جزءًا منك؟ وفي كل مرةٍ تحاول أن تسحب نفسك من هذا الهبوط، تجد أنك تزداد غرقًا، كأن الهاوية قد صارت وطنك، والظلام مأواك.

والأكثر إيلامًا، هو أن الاكتئاب ليس مجرد عبور لحظي، بل هو عملية استنزاف تدريجي، لا تقتصر على الجسم فحسب، بل على الروح أيضًا. لا شيء يبدو مستحقًا للعيش، ولا شيء يبدد هذا الضباب الذي يعتم كل جمالٍ كان يُحتمل. تصبح الحياة كأنها متاهة، والتوجه نحوها كأنك تسير في طرقاتٍ مغلقة، تبحث عن مخرجٍ لا يوجد له أثر.

الاكتئاب ليس انتقامًا من الحياة، بل هو تهدمٌ داخلي، كأن الروح تنهار في صمتٍ، بينما العالم من حولك يمضي في طريقه دون أن يلاحظ شيئا. وكلما حاولت أن تتشبث بشيء، شعرت أن ذلك الشيء يتفكك بين يديك، وكأنك لا تملك القوة حتى للتمسك بالأمل.

ولكن… وسط هذه الظلمات، يبقى جزءٌ صغيرٌ مننا، يتنفس بصعوبة، يصرخ بصمت، يبحث عن الضوء في مكانٍ بعيدٍ، في قلبٍ لا يعرف اليأس. قد لا يكون اليوم هو اليوم الذي سيشفي، وقد لا يكون الغد هو البداية، ولكن هناك دائمًا خيطٌ رفيعٌ من الأمل، يكمن في أعماقنا، حتى وإن كانت تلك الأعماق مليئةً بالحزن والظلام.

إلى كل من يعاني في صمتٍ، إليك أنتَ الذي لا يسمعك أحد، وتخشى أن تُخبر من حولك بما يعتريك من ألمٍ، لا تنسى أن الظلام لا يدوم، وأن هذا الصراع الداخلي ليس نهاية الطريق. في داخل كل واحدٍ منا قدرة على النهوض، وعلى العودة للحياة، مهما كانت الهاوية عميقة، ومهما كان الألم متجذرًا..

أضف تعليقاََ